1‏/8‏/2017

من تجليات مقومات التنمية الذاتية في التراث قاعدة الإقدام على المصلحة برغم المخاطر



بقلم الدكتور محمد الحفظاوي[1]
وضعت الشريعة الإسلامية، لتبصير الإنسان بواسطة قواعدها؛ بطرق التفكير السليمة، وسبل التقدير الصحيحة، المحققة للنفع في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى.
وإذا كان الواحد منا يسعى لتحقيق المصالح التي هي قوام معاشه وقوام دينه، فكثيرا ماتعرض لهذه المصالح مفاسد في الطريق، يصعب الاحتياط منها، وقلما ينجو المرء من آثارها، مثال ذلك العمل في بيئة ومؤسسة تختلط فيها المعاملات الحلال بالمعاملات المحرمة، أو يوجد بها أشخاص يختلفون معك في توجهاتهم وعقائدهم ونظرتهم للحياة، والولوج إلى الأسواق وفيها مافيها من منتوجات منها الحلال ومنها الحرام،ومايتهدد الشخص من ترصد اللصوص، ومكر وخديعة التجار، أو الأسفار للعمل أو لطلب العلم ومايحف مسيرة الطريق من مخاطر حوادث السير، ومن أمثلة النازلة التي نحن بصددها والذي يثيره كثير من الناس في نقاشاتهم هذه الأيام:كيف تعتمد البنوك التقليدية -وهي ربوية-، مؤسسات مصرفية إسلامية، ماهذا التناقض؟  فهل نفوت ونسقط  المصالح، بدعوى اشتمالها على مفاسد ؟ أم نقدم على المصلحة غير مبالين بما يحفها من مكروهات وآفات؟
جواب هذا الإشكال كامن في مضمون قاعدة (الإقدام على المصلحة المحفوفة)التي حررها الشاطبي واستخرجها من المخزون العلمي والمنهجي الذي تحفل به الشريعة في نصوصها المتعددة! ولئن كان الدكتور أحمد الريسوني[2] قد استدل بالقاعدة في بيانه لأسبقية تحقيق المصالح على المفاسد، فإن مضمونها الأصلي يتعلق-أيضا- بمانحن فيه وهو اقتحام المصالح مع الاحتياط مما يحفها من المفاسد.
              ومضمون القاعدة هو: أن أصول التصرفات من ضروريات وغيرها إذا أحاطت بها مكروهات مما لايُرتضى، لايكون هذا سببا في إبطالها، بل يتوجه العمل للتخفيف من آثارها مع الحرص على إقامة الأصل، يقول الشاطبي :" ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى؛ وهى أن الأمور الضرورية، أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا؛ فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج، كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال، واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح، وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز، وإقامة وظائف شرعية، إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضي فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها؛ لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع، فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك، قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها، فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله. والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق والله أعلم "[3]. ويقول العز بن عبد السلام: "إذَا اجْتَمَعَتْ مَصَالِحُ وَمَفَاسِدُ فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ فَعَلْنَا ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمَا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] "[4]. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى-على لسان موسى عليه السلام-: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ {المائدة/21}قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ {المائدة/22} قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {المائدة/23} قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ {المائدة/24} قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {المائدة/25} قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {المائدة/26}. فهنا بنو إسرائيل أمروا بدخول بيت المقدس ومجاهدة من فيها ووعدوا بالنصر وبشروا بالظفر ويالها من مصلحة عظمى! ولكنهم نكلوا وعصوا وخالفوا أمر رسول الله موسى عليه السلام، لما استحضروه من أوهام الخوف وهواجس الرعب ووساوس الهزيمة من القوم الجبارين! ففوتوا مصلحتين مصلحة الامتثال لأمر الله، ومصلحة النصر والتمكين، فكانت النتيجة أن عوقبوا بالتيه مدة أربعين سنة، حائرين لايعرفون مقصدا يتوجهون إليه.
 إن القاعدة تؤصل لمعنى عظيم وهو أن يكون المسلم إيجابيا في قراراته في هذه الحياة، ولا تثبطه وتنقص من عزيمته بضع معوقات وتفاصيل جزئيات الحياة، وهو ما عبر عنه الشاطبي بالإقدام على جلب المصالح، مع التحفظ والاحتراز من المفاسد بحسب الاستطاعة، وهنا معنى جميل:لايليق باللبيب أن يشتغل بتلك المفاسد ويضخم منها لدرجة تفوت معها تلك المصالح، وقد يعلن حالة حرب ضد تلك المنكرات بما يفتح أمامه واجهات للصراع لاطاقة له بها، فتفوت المصالح وتتطور المنكرات وهذا خلل كبير في التفكبير والتدبير لدى كثير من الأفراد والجماعات.
ففي هذه الحالة يكون الاشتغال بجلب المصالح مقدم على التصدي المطلق للمفاسد.
إن الدين يدعو المسلمين لتغليب جانب الإنجاز في مشاريعهم، فإنجاز المصالح، يضعف جانب المفاسد، وإقامة المعروف يساعد على التصدي للمنكر: ونصوص القرآن تشتمل على هذا المعنى منها:
قوله تعالى:﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل/97}[5]   .
وقوله سبحانه:﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا {الكهف/88} [6].
وقوله:﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى {طه/74} وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى {طه/75} جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى {طه/76}  ﴾[7].
ومن الحديث: عن أم سلمةقالت:«والذي ذهب بنفسه مامات حتى كان أكثر صلاته وهو جالس، وكان أحب الأعمال إليه العمل الصالح الذي يدوم عليه العبد وإن كان يسيرا»[8].
وفي الحديث:«إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها»[9].
وذكرت معالي الأمور في سياق الجمال، وسفسافها بهذا ضدها أي من القبائح المكروهة والأمور الرديئة والحقيرة والأخلاق الفاسدة غير اللائقة بالمسلم.
فقصد المسلم يجب أن يتوجه لمعالي الأمور ولايلتفت لأراذلها فطريق الله واضح، وإن أردت أن تكون على طريق الله وصراطه المستقيم فأحب معالي الأمور الجميلة واشتغل بهدف نبيل، ولتكن لك رسالة في هذا الوجود، واكره القبائح ولاتسمح للتافه من الأمور أن يصرفك عن أهدافك. وركز على عمل صالح ينفعك وينفع الأمة.






[1] -باحث مغربي في الفقه ومقاصد الشريعة.
. موقع جريدة التجديد بتاريخ:29/05/2009-[2]
  الموافقات:4/125.-[3]
-قواعد الأحكام في مصالح الأنام:74.[4]
النحل:97.-[5]
[6] -الكهف:88.
طه:75.-[7]
أخرجه ابن ماجه في سننه وصححه الالباني،حديث رقم1225..-[8]
[9] -أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد.والجزء الأول من الحديث أخرجه مسلم والترمذي واحمد.

G+

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق